فصل: البلاغة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الإعراب:

{وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ}... وجملة ليس خبر القواعد وعليهن خبر ليس المقدم وجناح اسمها المؤخر وأن وما في حيزها في موضع نصب بنزع الخافض أي في أن يضعن ثيابهن بمعنى ينزعن ثيابهن فيجوز النظر إلى أيديهن ووجوههن وسيأتي مزيد بسط لهذه الآية في باب البلاغة، وغير متبرجات حال وبزينة متعلقان بمتبرجات واعتبرها بعضهم بمعنى اللام أي غير مظهرات لزينة واعتبر آخرون الباء للتعدية أي غير مظهرات زينة.
وفي حاشية الشهاب على البيضاوي قوله غير مظهرات زينة أشار به إلى أن الباء للتعدية ولذا فسر بمتعد مع أن تفسير اللازم بالمتعدي كثير ويؤيده أن أهل اللغة لم يذكروه متعديا بنفسه ولم نر من قال تبرجت المرأة حليها، وليست الزينة مأخوذة في مفهومه حتى يقال: إنه تجريد كما توهم فمن قال إنه اشارة إلى زيادة الباء في المفعول به فقد أخطأ.
{وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الواو عاطفة وأن وما في حيزها مبتدأ وخير خبر ولهن متعلقان بخير أي والاستعفاف من الوضع خير لهن، لما ذكر الجائز أعقبه بالمستحب بعثا منه على اختيار أفضل الأعمال وأحسنها كقوله: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} {وأن تصدقوا خير لكم} واللّه مبتدأ وسميع خبر أول وعليم خبر ثان. {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} كلام مستأنف مسوق لأمر اختلف العلماء في تأويله، وأقرب ما ذكروه من تلك التأويلات: أن هؤلاء الطوائف الثلاث كانوا يتحرجون عن مؤاكلة الأصحاء فإن الأعمى ربما سبقت يده إلى أطيب الطعام فسبقت البصير اليه، والأعرج يتفسح في مجالسه فيأخذ مكانا واسعا فيضيق على السليم، والمريض لا يخلو من حالة مؤذية لقرينه وجليسه، فنزلت هذه الآية وسيأتي في باب الفوائد بقية الأقوال.
وليس فعل ماض ناقص وعلى الأعمى خبرها المقدم وحرج اسمها المؤخر ولا على الأعرج حرج عطف على ما سبقه وكذلك ما بعده.
{وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} الواو استئنافية وما بعدها كلام مستأنف لتقرير إباحة ما حرموه على أنفسهم ففي القرطبي أنه لما أنزل اللّه {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} قال المسلمون: إن اللّه قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل وإن الطعام من أفضل الأموال فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد فنزلت ولا نافية وعلى أنفسكم خبر مقدم وأن وما في حيزها مبتدأ مؤخر ومن بيوتكم متعلقان بتأكلوا. {أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ} عطف على ما تقدم وإخوانكم بمعنى إخوتكم. {أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ} عطف أيضا على ما سبق.
{أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ} عطف ايضا على ما سبق.
{أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} ما عطف على ما سبق وجملة ملكتم صلة ومفاتحه مفعول به والمراد بها أموال الرجل إذا كان له عليها قيم أو وكيل يحفظها له، والمفاتح جمع مفتاح وتجمع على مفاتيح والمراد الخزائن، وأو حرف عطف وصديقكم معطوف على ما سبق. {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتاتًا} الجملة بدل من الجملة السابقة وأن تأكلوا أن وما في حيزها نصب بنزع الخافض أي في أن تأكلوا وجميعا حال وأشتاتا عطف على جميعا والمعنى أنهم لما تحرجوا في الاجتماع على الطعام والمشاركة فيه لاختلاف الآكلين بيّن أنه لا حرج عليهم أن يأكلوا مجتمعين ومتفرقين وسيأتي مزيد بسط لهذا كله في بابي البلاغة والفوائد. {فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً} الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة دخلتم في محل جر باضافة الظرف إليها وبيوتا نصب على المفعولية على السعة، وقد اختلف في المراد بهذه البيوت والصحيح أنها عامة لأنه لا دليل على التخصيص، فسلموا الفاء رابطة وسلموا فعل أمر وفاعل وعلى أنفسكم متعلقان بسلموا وتحية منصوب على المصدر من معنى فسلموا فهو مرادفه كقعدت جلوسا وفرحت جزلا ومن عند اللّه صفة لتحية أو بنفس التحية ومباركة صفة وطيبة صفة أيضا أي يرجى بها زيادة الخير وتطيب بها نفس المستمع. {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} الكاف نعت لمصدر محذوف ويبين اللّه فعل مضارع وفاعل ولكم متعلقان بيبين والآيات مفعول به ولعل واسمها وجملة تعقلون خبر لعل.

.البلاغة:

1- عكس الظاهر:
في قوله تعالى: {غير متبرجات بزينة} فن يطلق عليه بعض علماء البيان اسم عكس الظاهر وبعضهم يسميه نفي الشيء بايجابه وقد سبقت الاشارة اليه في كتابنا وهو من محاسن الكلام فإذا تأملته وجدت باطنه نفيا وظاهره إيجابا، أو أن تذكر كلاما يدل ظاهره على أنه نفي لصفة موصوف وهو نفي للموصوف أصلا ومن أهم أبياته قول امرئ القيس:
على لاحب لا يهتدى بمناره ** إذا سافه العود النباطي جرجرا

فاللاحب هو الطريق الواضح والمنار هو العلامة توضع على الطريق للهداية وفي الحديث: «إن للدين صوى ومنارا كمنار الطريق» وسافه شمه والعود المسن من الإبل والنباطي: الضخم وجرجر رغا وضج وأخرج جرته فقوله: لا يهتدى بمناره لم يرد أن له منارا لا يهتدى به ولكن أراد أنه لا منار له فيهتدى بذلك المنار.
وكذلك المراد هنا والقواعد من النساء اللاتي لا زينة لهن فيتبرجن بها لأن الكلام فيمن هي بهذه المثابة، وكأن الغرض من ذلك أن هؤلاء استعفافهن عن وضع الثياب خير لهن فما ظنك بذوات الزينة من الثياب، وأبلغ ما في ذلك أنه جعل عدم وضع الثياب في حق القواعد من الاستعفاف إيذانا بأن وضع الثياب لا مدخل له في العفة، هذا في القواعد فكيف بالكواعب؟!.
2- الإيضاح:
وفي قوله: {ولا على أنفسكم} الآية فن الإيضاح وهو أن يذكر المتكلم كلاما في ظاهره لبس ثم يوضحه في بقية كلامه، والإشكال الذي يحله الإيضاح يكون في معاني البديع من الألفاظ وفي اعرابها ومعاني النفس دون الفنون، وقد سبق ذكره في هذا الكتاب، وهنا في هذه الآية ترد على ظاهرها أسئلة أولها: ما الفائدة في الاخبار برفع الجناح عمن أكل من بيته؟ وكيف يظن أن على من أكل من بيته جناحا؟
وثانيها: لم يذكر بيوت الأولاد كما ذكر بيوت غيرهم من الأقارب القريبة؟
وثالثها: ما فائدة قوله: {أو ما ملكتم مفاتحه} وظاهر الحال أن هذا داخل في قوله: {من بيوتكم}؟
ورابعها: كيف وقعت التسوية بين الصديق وبين هؤلاء الأقارب؟
والأجوبة التي تتضح بها هذه الإشكالات الأربعة هي:
الجواب الأول:
أما فائدة الإخبار برفع الجناح عمن أكل من بيته فإنما ذكر ذلك توطئة ليبني عليه ما يعطفه على جملته من البيوت التي قصد إباحة الأكل منها، فإنه إذا علم أن الإنسان لا جناح عليه أن يأكل من بيته فكذلك لا جناح عليه أن يأكل من هذه البيوت ليشير إلى أن أموال هذه القرابة كمال الإنسان، وإذا تساوت هذه الأموال سرى ذلك التساوي إلى الأزواج، فيكون سبحانه قد أدمج في ذلك الحض على صلة الأرحام ومعاملتهم معاملة الإنسان نفسه.
الجواب الثاني:
وأما عدم ذكر بيوت الأولاد فإنما ذكر من الأموال ما يظن بأن الأكل منه محظور فاحتاج إلى بيان الإباحة، وأما أموال الأولاد فتصرف الوالدين فيها كتصرفهم في أموالهم أنفسهم، لأن ولد الرجل بعضه وحكمه حكم نفسه، ألا ترى أن الشرع يوجب على الولد نفقة الوالدين إذا كانا محتاجين؟ وفي الحديث: «إن طيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه».
الجواب الثالث:
وأما زعم القائل بأن الكلام فيه تداخل لأن قوله: {أو ما ملكتم مفاتحه} هو ما في بيوتهم فإنه يحتمل أن يراد بما في البيوت المال التليد العتيد وما ملك الإنسان مفاتحه: المال الطريف المكتسب الذي يتسبّب الإنسان في تحصيله ويتعب في اكتسابه.
الجواب الرابع:
وأما سر التسوية بين الصديق وبين هؤلاء الأقارب فهو تعريف حق الصديق الذي ساوى باطنه ظاهره في اخلاص المودة، ولا يسمى صديقا حتى يكون كذلك، فإن اشتقاق اسمه من صدق المحبة وصفاء المودة وهو الذي أشار اليه سبحانه بقوله: {ولا صديق حميم} فإذا كان الصديق بهذه المثابة وعلى هذه الصفة ساوى هذه القرابة القريبة فليس على الإنسان جناح إذا تصرف في ماله تصرفه في مال نفسه.
فنون أخرى في الآية الكريمة:
هذا وقد اشتملت هذه الآية الكريمة بعض إيضاح هذه الإشكالات على تسعة أضرب من فنون البديع ندرجها فيما يلي مع التلخيص والاختصار:
آ- صحة التقسيم: وذلك لاستيعاب الكلام جميع أقسام الأقارب القريبة بحيث لم يغادر منها شيئا.
ب- التهذيب: وذلك في انتقال الكلام على مقتضى البلاغة في هذا المكان، فإن مقتضى البلاغة تقديم الأقرب فالأقرب كما جاء فيها.
ج- حسن النسق: وذلك في اختياره {أو} لعطف الجمل وهي تدل على الإباحة.
د- الكناية: فقد كنى سبحانه عن الأموال بالبيوت التي هي حرز الأموال ومقرها من باب تسمية الشيء بما جاوره، كقولهم: سال الميزاب وجرى النهر.
ه- المناسبة: وذلك بمناسبة الألفاظ بعضها ببعض في الزنة وهي واضحة في لفظة آبائكم وإخوانكم وأعمامكم وأخوالكم.
و- المثل: وذلك في قوله: {ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا وأشتاتا} خرج مخرج المثل السائر الذي يصح أن يتمثل به في كل واقعة تشبه واقعته.
ز- التذييل: فإن الكلام الذي خرج مخرج المثل جاء تذييلا لمعنى الكلام المتقدم لقصد توكيده وتقريره.
ح- المطابقة: وذلك في قوله: {جميعا أو أشتاتا} فإن هاتين اللفظتين تضادتا تضادا أوجب لهما وصفها بالمطابقة لأن المعنى جميعا أو متفرقا.
ط- المقارنة: وذلك في موضعين: أحدهما اقتران التمثيل بالتذييل كما تقدم بيانه، والثاني اقتران المطابقة بالتمكين فإن فاصلة هذا الكلام في غاية التمكين.

.الفوائد:

ذكرنا في باب الاعراب أقرب الوجوه في تأويل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ} الآية ووعدناك بأن نورد بقية الوجوه التي ذكرها المفسرون: فقد كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوي العاهات إلى بيوت أزواجهم وأولادهم وإلى بيوت قراباتهم وأصدقائهم فيطعمونهم منها، فخالج قلوب المطعمين والمطعمين ريبة في ذلك وخافوا أن يلحقهم فيه حرج وكرهوا أن يكون أكلا بغير حق لقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ} فقيل لهم ليس على الضعفاء ولا على أنفسكم يعني عليكم وعلى من في مثل حالكم من المؤمنين حرج في ذلك.
وقيل كانوا يخرجون إلى الغزو ويخلفون الضعفاء في بيوتهم ويدفعون إليهم المفاتيح ويأذنون لهم أن يأكلوا من بيوتهم فكانوا يتحرجون، حكي عن الحارث بن عمرو أنه خرج غازيا وخلف مالك بن زيد في بيته وماله فلما رجع رآه مجهودا فقال: ما أصابك؟ قال لم يكن عندي شيء ولم يحل لي أن آكل من مالك فقيل لي ليس على هؤلاء الضعفاء حرج فيما تحرجوا منه ولا عليكم أن تأكلوا من هذه البيوت.
وقيل نزلت رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد فعلى هذا تم الكلام قوله: {ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج}.